علم اللاهوت النظامي Download center/01 Word... · Web viewوإن كان أحد...

1508
م عل وت ه لا ل ا ي م ا ظ ن ل ا ف ي ل أ ت س ق ل ا س م ي! ج سِ ن% ا عه;pma&! ج را حه% ّ ق ن و اف ض وا ه ي ل3 ا س ق ل ا س ي ن م د! ن ع ور ن ل ا

Transcript of علم اللاهوت النظامي Download center/01 Word... · Web viewوإن كان أحد...

علم اللاهوت النظامي

علم اللاهوت النظامي

علم اللاهوت النظامى

علم اللاهوت النظامي

تأليف

القس جيمس أَنِس

راجعه ونقَّحه وأضاف إليه

القس منيس عبد النور

الكنيسة الإنجيلية بقصر للدوبارة . القاهرة

اسم الكتاب:

عِلْم اللاهوت النظامي

اسم المؤلف:

القس جيمس آنِس

اسم المُرَاجِع والمنقِّح:

الدكتور القس منيس عبد النور

راعي الكنيسة الإنجيلية بقصر للدوبارة. القاهرة

المطبعة:

رقم الإيداع:

الناشر:

الكنيسة الإنجيلية بقصر للدوبارة – القاهرة – مصر.

تقديم الكتاب

شرعتُ في تأليف كتابٍ في »علم اللاهوت« لأهمية دراسته لتلاميذ الدين المسيحي، قَدَّمتُ فيه ما جاء في أشهر المؤلَّفات في هذا العِلم، وخاصةً كتاب الدكتور القس تشارلس هودج، أستاذ اللاهوت في مدينة برنستون الأمريكية. وقد أطلتُ الكلام في المواضيع التي كثُر عليها الاعتراض من أهل الفلسفة المادية، وخاصةً ما كان يتعلَّق باللَّه وعلاقته بالكون الماديّ، كالأدلة على وجوده، والخليقة، والمعجزات، بما يبرهن صدق الحقائق الإلهية المعلَنة في الكتاب المقدس الذي هو مصدر علم اللاهوت ومرجعه الوحيد.

على أنه لا يبعد أن ينشأ عن التقدم في دراسة العلوم الطبيعية بعض التغيير في تفسير كيفية خلق اللَّه للكون، لأن الكتاب المقدس أوضح أن اللَّه هو الخالق دون أن يشرح كيفية الخلق بالتفصيل. فيجب على اللاهوتي أن يتمسك بتعاليم الكتاب الواضحة، وأن يقبل التوضيح العِلمي لغير الواضح منها، وأن يبذل جهده في دحض بعض الآراء الفلسفية والافتراضات التخمينية التي لا تستحق أن تُقارن بتعاليم الكتاب المقدس الراسخة، لأن كثيرين اليوم تطرَّفوا في رفع شأن العلوم الطبيعية حتى أنكروا حكمة الخالق وعنايته، بل أنكر بعضهم وجوده! فيقول العلماء مثلاً إن خلق العالم استغرق بلايين السنين، ويقول بعض مفسري الكتاب المقدس أنه خُلق في ستة أيام، فيبدو أن هناك تناقضاً بين العلم والدين. ولما كنا نؤمن أن مصدر المعرفة الصحيحة والوحي الصادق هو اللَّه، يكون أن بعض علماء التفسير أخطأوا، ولا يكون هناك تناقض بين العلم والدين. فنحن نحدد اليوم بأربع وعشرين ساعة بناءً على دوران الشمس والأرض، ولم تُخلق الشمس إلا في اليوم الرابع (تك 1: 16). فيكون أن المقصود بكلمة يوم حقبة من الزمان، لا 24 ساعة. كما أن ألف سنة عند اللَّه مثل يوم واحد (مز 90: 4، 2بط 3: 8).

ويشتمل هذا الكتاب على مقدمةٍ مطوَّلة في أصول علم اللاهوت ونظامه، ثم الجزء الأول وهو: »الثيولوجيا« (الكلام في اللَّه) وبعده الجزء الثاني وهو »الأنثروبولوجيا« (الفكر اللاهوتي عن الإنسان) ثم الجزء الثالث وهو »السوتيريولوجيا« (الفكر اللاهوتي عن الخلاص) وأخيراً الجزء الرابع وهو »الإسخاتولوجيا« (الفكر اللاهوتي في الأمور الأخيرة). وقد سمَّيتُه »علم اللاهوت النظامي« ملتمساً من اللَّه أن يجعله مفيداً لجميع أبناء اللغة العربية، ووسيلةً لتقدُّمهم في معرفة ما أُعلن لنا في كتابه العزيز عن طبيعته وصفاته وعلاقته بالكون، وخاصةً الجنس البشري، وسرّ التجسُّد، وعمل الفداء، وحلول الروح القدس. لأن هذه المعرفة هي الحياة الأبدية.

القس جيمس أنِس

مقدمة المُرَاجِع

يسرني أن أقدم للقارئ العربي هذا الكتاب الثمين، الذي كُتب في سبعينيات القرن التاسع عشر، وهو مرجع لا يستغني عنه رجل دين ولا طالب لاهوت ولا محب لدراسة العقيدة المسيحية.

ولما كانت لغته قديمة فقد قمت بتحديثه وعَصْرَنته (جعله حديثاً وعصرياً) ليسهُل على أبناء اليوم أن يستفيدوا منه. كما قمت بإعادة تبويبه وكتابة فهرسه بأرقام الفصول والأسئلة، ليسهل على دارسه الوصول إلى ما به من معلومات قيّمة.

وآمل أن يعطي أحد المتخصصين في علم اللاهوت من بلادنا جزءاً من وقته ليكتب مرجعاً نابعاً من قلب بيئتنا. وإلى أن يحدث هذا أرجو أن يسدَّ هذا الكتاب شيئاً من فراغ عدم وجود كتاب متكامل في علم اللاهوت من وجهة نظر الكنيسة الإنجيلية المصرية.

وأودّ أن أوجِّه الشكر القلبي لمن عاونوني على إعداد هذه المخطوطة للطبع. لهم تقديري وشكري. ولولا مجهودهم ما استطعت أن أقدم هذا الكتاب للقارئ بهذه الصورة، التي أرجو أن ترضيهم.

الدكتور القس منيس عبد النور

فهرس الكتاب

المقدمة: علم اللاهوت النظامي، ماهيته والآراء المختلفة فيه (فصل 1-8) ...

الجزء الأول: الثيولوجيا، أي الكلام في اللَّه (فصل 9-20) ...

الجزء الثاني: الأنثروبولوجيا، أي الفكر اللاهوتي عن الإنسان (فصل 21-28) ...

الجزء الثالث: السوتيريولوجيا، أي الفكر اللاهوتي عن الخلاص (فصل 29-46) ...

الجزء الرابع: الإسخاتولوجيا، أي الفكر اللاهوتي عن الآخرة (فصل 47-52) ...

فصول المقدمة

الفصل الأول - علم اللاهوت النظامي ...

حقيقة علم اللاهوت وغايته (س 1-4)

شروط علم اللاهوت النظامي وحقائقه (س 5-10)

الفصل الثاني - موضوع علم اللاهوت ...

تفصيل حقائق علم اللاهوت (س 1-5)

علم اللاهوت ليس كافياً وحده (س 6-10)

أقسام علم اللاهوت ومواضيعه (س 11-13)

الفصل الثالث - اعتقادات العقليين ...

أشهر آراء العقليين (س 1، 2)

الرد عليهم وإمكانية الوحي (س 3-14)

مكانة العقل في الدِّين (س 15-30)

مكانة الحواس في الدِّين (س 31)

الفصل الرابع - اعتقادات الباطنيين ...

تعاليم الباطنيين (س 1-5)

تاريخ تعاليم الباطنيين (س 6-11)

الرد على آرائهم (س 12)

الفصل الخامس - اعتقادات التقليديين ...

تعاليم التقليديين (س 1-3)

تعليمهم في الكتاب المقدس والرد عليه (س 4-11)

تعليمهم في التقليد والرد عليه (س 12-16)

تعليمهم في عصمة الكنيسة والرد عليه (س 17-20)

الفصل السادس - اعتقادات الإنجيليين ...

تعليمهم في الكتاب المقدس (س 1-11)

تعليمهم في الوحي (س 12-24)

تعليمهم في كمال الكتاب المقدس (س 25-37)

قواعد تفسير الكتاب (س 38)

الفصل السابع - النظم اللاهوتية الشهيرة ...

النظام البيلاجي، والشبيه بالبيلاجي، والأغسطيني (س 1-18)

الفصل الثامن - قوانين الإيمان ...

(س 1-8)

الجزء الأول

الثيولوجيا

(أي الكلام في اللَّه)

الفصل التاسع - الأدلة على وجود اللَّه ...

أصل الاعتقاد بوجود اللَّه (س 1-7)

الأدلة على وجود اللَّه (س 8-18)

الفصل العاشر - الأقوال الخاطئة في اللَّه ...

الأقوال الإلحادية (س 1-7)

القول بوجود أكثر من إله (س 9-11)

القول بألوهية الكون (وحدة الوجود) (س 12-14)

الفصل الحادي عشر - معرفة البشر للَّه ...

(س 1-7)

الفصل الثاني عشر - صفات اللَّه ...

من هو اللَّه؟ (س 1-7)

اللَّه روح (س 8-13)

اللَّه غير محدود (س 14-20)

اللَّه سرمدي (بلا بداية ولا نهاية) (س 21-24)

اللَّه غير متغيّر (س 25-28)

اللَّه عالِم بكل شيء (س 29-38)

اللَّه ذو مشيئة (س 39-42)

اللَّه قادر (س 43-48)

اللَّه قدوس (س 49)

اللَّه عادل (س 50-59)

اللَّه صالح (س 60-70)

اللَّه حق (س 71-73)

اللَّه ذو سلطان (س 74-77)

الفصل الثالث عشر - التوحيد والتثليث...

تعليم الكتاب فيه (س 1-14)

دراسة المجامع الكنسيّة له (س 15-19)

علاقة الأقانيم ببعضها (س 20-32)

الفصل الرابع عشر - لاهوت المسيح ...

إثباته من العهد القديم (س 1-11)

إثباته من العهد الجديد (س 12-34)

نتيجة رفض لاهوت المسيح (س 35-37)

الفصل الخامس عشر - الروح القدس ...

لاهوت الروح القدس (س 1-11)

انبثاق الروح القدس (س 12)

عمل الروح القدس (س 13-17)

معمودية الروح القدس (س 18-21)

مواهب الروح القدس (س 22)

ثمر الروح القدس (س 23)

الفصل السادس عشر - قضاء اللَّه ...

صفات هذا القضاء (س 1-24)

التعيين السابق (س 25-49)

الفصل السابع عشر - الخليقة ...

أصل الكون (س 1-9)

المذاهب المختلفة في خلْق الكون (س 10-21)

الفصل الثامن عشر - عناية اللَّه ...

معنى العناية (س 1-4)

سياسة اللَّه لخلائقه وأفعالهم (س 5-15)

الفصل التاسع عشر - المعجزات ...

حقيقة حدوث المعجزة (س 1-12)

التمييز بين المعجزة الصحيحة والكاذبة (س 13، 14)

فائدة المعجزة (س 15-18)

الفصل العشرون - الملائكة ...

الملائكة الأخيار (س 1-10)

الملائكة الأشرار (س 11-15)

الجزء الثاني

الأنثروبولوجيا

(أي الفكر اللاهوتي عن الإنسان)

الفصل الحادي والعشرون - أصل الإنسان ...

التعليم الكتابي في أصل الإنسان (س 1-5)

مذهب النشوء (س 6-11)

الفصل الثاني والعشرون - وحدة الجنس البشري وقِدَمه ...

وحدة البشر (س 1-6)

قِدم البشر (س 7)

الفصل الثالث والعشرون - طبيعة الإنسان ...

تعليم الكتاب عنها (س 1-3)

مذاهب أخرى فيها (س 4-8)

طبيعة آدم (س 9-13)

خلود النفس (س 14-16)

الفصل الرابع والعشرون - حالة الإنسان الأصلية ...

تعليم الكتاب عنها (س 1-5)

التعليم البيلاجي فيها (س 6-12)

التعليم التقليدي فيها (س 13، 14)

الفصل الخامس والعشرون - امتحان آدم وسقوطه ...

عهد الأعمال (س 1-9)

سقوط آدم (س 10-19)

الفصل السادس والعشرون - الخطية ...

ظهورها ووضوحها (س 1، 2)

مذاهب في تعريف الخطية (س 3)

المذهب البيلاجي فيها (س 4-7)

المذهب النصف البيلاجي فيها (س 8)

المذهب الأغسطيني فيها (س 9-13)

الشريعة تُظهِرها (س 14-17)

الخطية عصيان وتعدٍّ (س 18)

الخطية جرم وفساد (س 19)

الفصل السابع والعشرون - تأثير خطية آدم في نسله ...

لم تضر الخطية آدم وحده (س 1-6)

الحسبان بواسطة (س 7 و8)

الحسبان بدون واسطة (س 9-11)

اعتراضات على حسبان خطية آدم علينا (س 12)

عمومية الخطية الأصلية (س 13-25)

عجز الإنسان الساقط عن كل خير روحي (س 26-32)

الفصل الثامن والعشرون - ضمير الإنسان وإرادته ...

قُوَى الإنسان (س 1-4)

ضمير الإنسان (س 5-11)

إرادة الإنسان (س 12-19)

الجزء الثالث

السوتيريولوجيا

(أي الفكر اللاهوتي عن الخلاص)

الفصل التاسع والعشرون - قضاء اللَّه بالفداء ...

مذهبا سابق السقوط وتابع السقوط (س 1-4)

المذهب الأرميني (س 5)

المذهب الأرميني الوسلاني (س 6)

المذهب الأغسطيني (س 7-11)

الفصل الثلاثون - عهد الفداء ...

الفداء في صورة عهد (س 1، 2)

تعليم الكتاب في عهد الفداء (س 3-6)

عهد النعمة (س 7-11)

وحدة عهد النعمة (س 12-16)

العصور المختلفة لعهد النعمة (س 17-21)

الفصل الحادي والثلاثون - تجسُّد المسيح ...

التجسد في العهد القديم (س 1، 2)

فوائد التجسد (س 3-5)

اتحاد اللاهوت بالناسوت (س 6-12)

نتيجة اتحاد الطبيعتين (س 13-21)

التعاليم الضلالية في شخص المسيح (س 22-27)

الفصل الثاني والثلاثون - وساطة المسيح ...

صفات الوسيط (س 1-5)

تعاليم التقليديين في الوساطة (س 6)

وظائف المسيح الثلاث (س 7، 8)

الفصل الثالث والثلاثون - وظيفة المسيح النبوية ...

(س 1، 2)

الفصل الرابع والثلاثون - وظيفة المسيح الكهنوتية ...

(س 1-9)

الفصل الخامس والثلاثون - كفارة المسيح ...

اصطلاحات أساسية (س 1-6)

آراء في الكفارة (س 7)

لزوم الكفارة وهدفها (س 8-22)

مذاهب مختلفة في الكفارة (س 23-29)

شفاعة المسيح (س 30-33)

الفصل السادس والثلاثون - وظيفة المسيح الملكية ...

المسيح الملك (س 1-6)

معاني الملكوت وفروعه (س 7-11)

شروط الدخول في هذا الملكوت (س 12، 13)

ملكوت المسيح روحي (س 14-20)

معنى تسليم الملكوت للآب (س 21)

الفصل السابع والثلاثون - اتِّضاع المسيح ...

اتضاع الميلاد (س 1-4)

اتضاع الخضوع للشريعة (س 5)

اتضاع الآلام والموت (س 6، 7)

النزول إلى الهاوية (س 8)

الفصل الثامن والثلاثون - ارتفاع المسيح ...

ارتفاع القيامة (س 1-3)

جسد القيامة (س 4)

صعود المسيح (س 5، 6)

الجلوس عن يمين اللَّه (س 7، 8)

السلطان المطلق (س 9)

المجيء ثانيةً (س 10)

الفصل التاسع والثلاثون - الدعوة ...

وظيفة كل أقنوم في الفداء (س 1-4)

الدعوتان الخارجية والداخلية (س 5-12)

فعل الروح العام (س 13-16)

فعل الروح الخاص (س 17-23)

الفصل الأربعون - التجديد والرجوع إلى اللَّه ...

(س 1-7)

الفصل الحادي والأربعون - الإيمان والتوبة ...

(س 1-10)

الفصل الثاني والأربعون - التبرير والتبني ...

كيف ننال التبرير (س 1-4)

حسبان بر المسيح (س 5)

التبرير بالإيمان وحده (س 6-9)

التبني (س 10، 11)

الفصل الثالث والأربعون - التقديس والأعمال الصالحة ...

تعريف التقديس ونتائجه (س 1-6)

مذاهب في التقديس (س 7)

الأعمال الصالحة والتقديس (س 8-13)

الفصل الرابع والأربعون - قانون الحياة الصالحة ...

الوصايا العشر (س 1-6)

الوصية الأولى (س 7)

الوصية الثانية (س 8)

الوصية الثالثة (س 9)

الوصية الرابعة (س 10)

الوصية الخامسة (س 11)

الوصية السادسة (س 12)

الوصية السابعة (س 13)

الوصية الثامنة (س 14)

الوصية التاسعة (س 15)

الوصية العاشرة (س 16)

المسيحي والوصايا العشر (س 17-19)

الفصل الخامس والأربعون - الكنيسة وفرائضها ...

نظام الكنيسة المنظورة ووظائفها (س 1-6)

عمل الكلمة (س 7)

المعمودية (س 8-16)

العشاء الرباني (س 17-24)

الاستحالة (س 25)

المعمودية والعشاء الرباني والخلاص (س 26)

الأسرار (س 27)

الفصل السادس والأربعون - الصلاة ...

شروط الصلاة المقبولة (س 1-5)

أنواع الصلاة (س 6)

الصلوات المكتوبة (س 7)

الصلاة والبناء الروحي (س 8-10)

الجزء الرابع

الإسخاتولوجيا

(أي الفكر اللاهوتي عن الآخرة)

الفصل السابع والأربعون - الوفاة وحالة النفس إلى وقت القيامة ...

(س 1-10)

الفصل الثامن والأربعون - مجيء المسيح ثانيةً وسوابقه التاريخية ...

انتشار الإنجيل (س 1، 2)

رجوع اليهود للمسيح (س 3-5)

التفسير الحرفي لمستقبل اليهود (س 6)

الارتداد العظيم (س 7)

الألف السنة ثم حلّ الشيطان (س 8، 9)

حوادث تصاحب المجيء ثانيةً (س 10، 11)

رأي سابقي الألف السنة (س 12-17)

تفسير دانيال ص 2 و7 (س 18-23)

معنى »ثم يأتي المنتهى« (س 24)

معنى »أزمنة رد كل شيء« (س 25)

معنى »إنسان الخطية« (س 26)

تفسير رؤيا 20: 4-10 (س 27)

الفصل التاسع والأربعون - القيامة العامة ...

(س 1-5)

الفصل الخمسون - الدينونة الأخيرة ونهاية العالم ...

(س 1-3)

الفصل الحادي والخمسون - السماء وجهنّم ...

(س 1-4)

الفصل الثاني والخمسون - أبدية حال الأبرار والأشرار ...

(س 1-6)

فهرس عام الموضوعات

علم اللاهوت النظامي، ماهيته

والآراء المختلفة فيه

الفصل الأول - علم اللاهوت النظامي

الفصل الثاني - موضوع علم اللاهوت

الفصل الثالث - اعتقادات العقليين

الفصل الرابع- اعتقادات الباطنيين

الفصل الخامس - اعتقادات التقليديين

الفصل السادس - اعتقادات الإنجيليين

الفصل السابع - النظم اللاهوتية الشهيرة

الفصل الثامن - قوانين الإيمان

الفصل الأول

علم اللاهوت النظامي

1 - ما هو علم اللاهوت؟

* هو علمٌ يبحث عن اللَّه وصفاته وشرائعه وأعمال عنايته، والتعاليم التي يجب أن نعتقدها، والأعمال التي يجب أن نقوم بها. وهو قسمان: وَحْييٌّ، وطبيعي.

2 - لماذا سُمِّي علم اللاهوت »علماً« لا »معرفة«؟

* لأن العلم إدراك الكليات أو المركبات، والمعرفة إدراك المفردات والقضايا البسيطة. وبعلم اللاهوت نعرف العقائد الدينية وما بينها من العلاقات، حتى يستلزم التسليم بواحدةٍ منها التسليم بالأخرى.

3 – ما هو مصدر تلك العقائد؟

* نجدها متفرقةً في الكتاب المقدس، غير أن اللاهوتي يجمعها وينظمها ويبيّن علاقة بعضها ببعض وما بينها من الاتفاق. ولا يخفى ما في هذا من الصعوبة، والأهمية. وعلى هذا لا يكون الكتاب المقدس هو كتاب علم اللاهوت بل مصدره وأساسه، أي أن علم اللاهوت مأخوذٌ منه ومبنيٌّ عليه.

4 - لماذا لا نكتفي بأخذ تلك العقائد الدينية على ما أعلنها اللَّه، دون التكلُّف ببيان علاقاتها واتفاقها؟

* (1) لأن طبيعة تفكير عقل الإنسان تتوقف على ترتيب وتنظيم ما تحقَّقه من الحوادث والحقائق. فإذا كان لا يكتفي بأحكام علمٍ دون جمعها على ترتيبٍ ونظام، فبالأَوْلى لا يُكتفى بدُرر الكتاب المقدس بدون نَظمها في عقدٍ واحد لفائدته.

(2) بالنظام يحصل الإنسان على معرفةٍ أفضل مما يحصل عليها بدونه. وهذا واضح في كل العلوم الطبيعية والعقلية والطبية وغيرها. فلا يمكن أن نتمكن من توضيح معلَنات كتاب اللَّه للآخرين إلا بمعرفة تلك المعلنات مفردةً، ثم معرفة علاقتها بعضها ببعض. فلم تصل الكنيسة لمعرفة ما يتعلق بشخص المسيح إلا بعد معاناة الدرس المدقِّق زمناً طويلاً، وجمع كل التعاليم المتفرّقة المختصّة به في كتاب اللَّه ومقارنتها معاً.

(3) لبيان الحق للناس وإقناعهم به. فالذي يقوم بخدمة الحق وتعليمه والدفاع عنه لا يقدر أن يُظهره واضحاً للناس ويُقنعهم به، كما لا يقدر أن يردّ على كل معاندٍ دون أن يجمع تعاليم الكتاب المقدس وينظمها.

(4) من مقاصد اللَّه أن ينظم تعاليم كتابه بواسطة البشر. فكما أن اللَّه لا يعلّم الناس علم الأحياء أو الكيمياء، بل يُظهر لهم الحقائق التي يتألف منها هذان العِلمان، كذلك لا يعلّمنا اللَّه علم اللاهوت، بل أعلن لنا في كتابه الحقائق التي بتنظيمها ينتظم هذا العِلم. وكما أن الحوادث الطبيعية ترتبط ببعضها حسب القوانين الطبيعية، هكذا كل حقائق الكتاب المقدس ترتبط ببعضها وفقاً لطبيعة اللَّه وطبيعة خلائقه. وكما شاء اللَّه أن يتأمل الناس في أعمال الخليقة ويتعلمون علاقاتها واتفاقها، هكذا سُرَّت مشيئته أن ندرس كتابه لنرى أن حقائقه مثل النجوم، ليست أنواراً مستقلة، بل أجزاء من كونٍ عظيم منظم، لا يوصف سموُّه وجلاله.

5 - ما الذي يجب أن يُسلِّم به كل طالب علمٍ طبيعي قبل تنظيم مسائله؟

* لا بد له أن يُسلِّم أولاً ببعض المبادئ الأولية:

(1) يركن إلى صدق حواسه، لأن الأمور الطبيعية تظهر له بواسطتها، فإن كذَّب حواسه لا يمكنه أن يتحقّق شيئاً من أمر الكون.

(2) صِدق قُواه العقلية، فيسلّم أنه يقدر أن يدرك ويقارن ويتذكر ويستنتج واثقاً بصحة هذه الأفعال.

(3) البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل، كقولنا إنه لابد من وجود علَّة لكل معلول.

وبإقرار هذه المبادئ الثلاثة يمكن أن يتقدم إلى التأمل في مسائل العلم ويجمعها، وينظمها بعد أن يتحقّق من صحتها وكفايتها لإثبات ما يستنتجه منها أو يبنيه عليها من التعاليم. وعلى ذلك لا ينشئ هو المسائل من نفسه، ولا يزيد عليها، بل يرويها كما جاءت.

6 - ماذا يمكن استنتاجه من الحقائق بعد جمعها وترتيبها؟

* يستنتج منها الأصول أو القواعد، فمثلاً نستنتج من ملاحظة سقوط الأثقال على الأرض أن هناك قانون جاذبية، وأن جاذبية مادة ما تزيد بزيادة مقدار المادة. وأن ثبوت تلك القوانين في الماضي يبرهن ثبوتها على الدوام. ولما كانت جميع العلوم الطبيعية الصحيحة قد بُنِيت على ملاحظة الحقائق على هذا المنوال واستنتاج القواعد منها، ولما كان الكتاب المقدس خزانة الحقائق الدينية، كما أن الكون خزانة الحقائق الطبيعية للفيلسوف الطبيعي، فيحقَّ له أن يتصرف بجمع وتنظيم هذه كما يتصرف الفيلسوف بتلك.

7 - ما هي الأشياء التي يجب على اللاهوتي أن يسلِّم بها؟

* يجب عليه أن يسلم أولاً بكل المبادئ التي يجب على الفيلسوف الطبيعي أن يسلم بها، ثم ببعض الأوّليات التي لا يجدها في العلوم الطبيعية، كالتمييز بين الحرام والحلال، وأن اللَّه لا يمكن أن يأمر بعملٍ يخالف الحق، وأنه لا يجوز ارتكاب السيئات لتأتي الصالحات، وأن الخطية تستوجب القصاص، وغير ذلك مما غرسه اللَّه في فطرة الإنسان.

8 - ما هي الحقائق التي يجب على اللاهوتي أن يبحث عنها ويجمعها ويرتّبها؟

* هي الحقائق التي أظهرها اللَّه في كتابه وفي الخليقة بخصوص ذاته الكريمة وعلاقتنا به، وكل ما نجده في الخليقة، وفي نفس تركيبنا أو خارجاً عنه مما يشهد للَّه ولعلاقتنا به. وبهذا يُقال إن الكتاب المقدس وحده يتضمَّن الديانة المسيحية الحقيقية، لأنه لما كانت الحقائق التي ينظمها اللاهوتي في علم اللاهوت بعضها واضح في أعمال اللَّه خارج الإنسان، وبعضها الآخر واضح في طبيعة الإنسان، وبعضها الثالث واضح في ضمير المؤمنين الديني، أعلن اللَّه لنا في كتابه (إما صريحاً أو ضمنيّاً) كل ما نقدر أن نتعلّمه منها في شأنه، دفعاً للخطإِ في ما نستنتجه من أعماله ومن شعورنا وطبيعتنا.

فعلم اللاهوت المسيحي هو الكلام في اللَّه، وفي الإنسان، وفي العلاقة بينهما، وفي علاقته بالمخلوقات كافةً، ومعلَنات الوحي، ولا سيما شخص المسيح، ذلك الشخص السامي الفريد، الذي هو غاية تلك الإعلانات ومجدها.

9 - ما الذي يجب أن يراعيه اللاهوتي في بحثه عن الحقائق الدينية وجمعها؟

* هو نفس ما يجب أن يراعيه الفيلسوف في بحثه عن الحقائق الطبيعية وجمعها:

(1) جمْع الحقائق الدينية، محترساً من أي خطإٍ، فيراجع القضية مراتٍ عديدة قبل أن يعلن صحتها، لأن الخطأ في العلوم الطبيعية ينشأ غالباً عن التسليم بقضايا وهمية كأنها يقينية.

(2) جَمْع كل الحقائق. فكما أن عدم مراعاة هذا الشرط في الطبيعيات حمل الناس على الظن عدة قرون أن الشمس تدور حول الأرض، وأن الأرض مسطحة، كذلك النظر في بعض الحقائق اللاهوتية دون غيرها، يوقع الناس في الضلالات التي شاعت في تاريخ الكنيسة، مثل التعاليم الفاسدة عن شخص المسيح ولاهوته.

10 – كيف نستخرج الكليات من الجزئيات؟

* نستخرجها بالتأمل المدقق في الحقائق المفردة بجملتها. ولما كانت مبادئ علم اللاهوت تصدر عن الحقائق كما هي، لا عن تصوُّرات العقل، كان تصوُّر اللاهوتي وتفسيره للكتاب المقدس بموجب هذا التصور مخالفاً لقوانين العلوم. ولذلك يجب عليه أن يعتبر أن أقوال اللَّه وتعاليمه هي المصدر الوحيد لعلم اللاهوت. والأجدر به أن يدرس الكتاب المقدس بدون اعتقادات سابقة، ولا أغراض شخصية يريد أن يثبتها. بل يأتي بعقل منفتح وقلب سليم ليتعلّم ما يعلّمه اللَّه في كتابه، قائلاً: »تكلَّمْ يا رب لأن عبدك سامع« (1صم 3: 9).

الفصل الثاني

موضوع علم اللاهوت

1 – ما هو تعريف علم اللاهوت؟

* يَبحث علم اللاهوت عن حقائق الكتاب المقدس وتعاليمه كما نبحث في العلوم الطبيعية عن حقائق الطبيعة وقوانينها. وكما أن غاية العلوم الطبيعية أن تجمع حقائق العالم الخارجي ومعرفة قوانينه وتنظيمها، كذلك غاية علم اللاهوت هي تنظيم حقائق الكتاب المقدس ومعرفة أصوله والتعاليم المتفرّعة منها. فعلم اللاهوت يُظهِر تعاليم الكتاب المقدس بنظامها وعلاقاتها الداخلية الروحية، ويستنتج فوائد أخلاقية دينية منها. ولذلك عرَّفه بعضهم بأنه تعليم اللَّه في ما للَّه، ومُرشد النفس إليه.

2 - ما هي علاقة علم اللاهوت بالديانة؟

* علم اللاهوت من توابع الديانة ولوازمها. ومن فوائده جمع حقائقها وتنظيمها على أسلوبِ علميّ.

3 - ما هي أقسام علم اللاهوت الوحيي؟

* أربعة أقسام هي:

(1) علم اللاهوت التفسيري: وهدفه مطالعة الكتاب المقدس بكل دقّة وتأنٍ لتفسيره تفسيراً صائباً، ومعرفة كل فوائده، واستخلاص الحقائق التي يُبنى منها علم اللاهوت التعليمي.

(2) علم اللاهوت التعليمي: وهدفه ترتيب الحقائق المتحصّلة من علم اللاهوت التفسيري وتنظيمها.

(3) علم اللاهوت الدفاعي أو الجدلي: وغايته دفع الضلال والدفاع عن الحق، وهو يتم بدحض الآراء الخاطئة والهرطقات بأسلحة الحق وبراهين الصدق.

(4) علم اللاهوت التاريخي: وغايته بيان تقدُّم التعاليم اللاهوتية من قرنٍ إلى آخر، وما طرأ عليها من التغيير إلى أن بلغت حالتها الحاضرة.

أما كتابنا هذا فيحيط بهذه الأقسام الأربعة، لأنه يهدف إلى التفسير، والتعليم، والدفاع، والتاريخ. ويصح أن نسمّيه «علم اللاهوت النظامي» لأن غايته تنظيم علم اللاهوت، وأن يبيِّن الحق ويدفع الضلال.

4 - لماذا قسَّمنا علم اللاهوت إلى قسمين، وما هما؟

* لما كان الكتاب المقدس يتضمّن حقائق معلَنة فيه فقط، وحقائق معلنة فيه وفي الخليقة أيضاً، قُسم علم اللاهوت لقسمين عظيمين، هما اللاهوت الطبيعي واللاهوت الوحيي. فالطبيعي هو ما يبحث عن الأمور الطبيعية، أي المخلوقات كافةً سواء كانت مادية أو عقلية لاستخراج تعليمها في اللَّه وعلاقتنا به. أما اللاهوت الوحيي فيبحث حقائق الكتاب الموحَى بها وفوائدها التعليمية.

5 - ماذا قيل في علم اللاهوت الطبيعي؟

* اختلفت الآراء فيه، فقال قوم إننا لا نقدر أن نتّكل على شهادة الطبيعة بوجود اللَّه وصفاته، لأن الأمور الطبيعية لا تعلّمنا شيئاً يُوثق به عن اللَّه. وقال آخرون إن شهادة الطبيعة واضحة جليّة لا نحتاج معها للوحي أصلاً.

6 - ما هو الرد على القول إن الأمور الطبيعية لا تعلّمنا شيئاً يوثق به عن اللَّه؟

* (1) يؤكد الكتاب المقدس أن أعمال اللَّه تُعلن وجوده وصفاته، ومن ذلك قول المرنم: «السموات تحدِّث بمجد اللَّه. والفلك يخبر بعمل يديه» (مز 19: 1-4).

(2) يمكن أن يعرف الوثنيون اللَّه من أدلة وجوده الواضحة في الطبيعة، ومن ذلك قول المرنم في مزمور 94: 8-10 وأعمال 14: 15-17 و17: 24-29. وأكد بولس هذه الشهادة بقوله: «معرفة اللَّه ظاهرة فيهم لأن اللَّه أظهرها لهم، لأن أموره غير المنظورة تُرى» (رومية 1: 19-21). ولا شك أن اللَّه أعلن بأعماله عن وجوده وأزليته وقوته ولاهوته، وذلك جوهر علم اللاهوت الطبيعي.

7 – هل تُغني شهادة الطبيعة عن إرشاد الوحي؟

* لا يستطيع إنسان بدون إرشاد الوحي أن يعرف شروط الخلاص، فذلك يتوقّف على تعليم الكتاب المقدس الذي منه وحده نعرف حالتنا الطبيعية، واحتياجاتنا الروحية، وشروط الخلاص، ومَن الذي يناله. أما الذين يعتقدون أن أعمال اللَّه وحدها تعلِّم ما يكفي لإرشاد الإنسان الساقط إلى الخلاص فهم العقليون والماديون، الذين ترفضهم كل الطوائف المسيحية. ولقد بحث البشر عن كيفية تبرير الخاطئ قروناً عديدة ولم يحصلوا على ما يفيدهم لا من ضمائرهم، ولا من الطبيعة الخارجية.

8 - ما هو الدليل من شهادة الطبيعة على أن الإنسان مسؤول أمام اللَّه بغَضّ النظر عن الوحي؟

* هذا واضح من رومية 1: 20. ومن الأدلة التي تتّفق مع شهادة الوحي حالة الإنسان وعلاقته بالكون، فالإنسان بحواسه يبحث عن الأمور الطبيعية، وبوجدانه يبحث عما يختص بحياته الروحية، ويجد في الخارج والداخل ما لا يقدر أن يعللَّه إلا في علاقته بخالقٍ مجيد يستحق الشكر والحمد والعبادة من الجميع على الدوام. وكلما دقَّق الإنسان في البحث يرى ما يشهد لمشيئة مبدعٍ عظيم خلق الكائنات لغاياتٍ فائقة ومقاصد سامية، ولا بد أنه صاحب العقل والحكمة والمشيئة والقدرة. وكلما نظر الإنسان في أحواله الداخلية تحقق أنه ذو مسؤولية روحية أمام حاكمٍ روحي عظيم، ينبغي أن يقدّم له الإكرام والطاعة والخدمة اللائقة. وعلى هذا يكون اللَّه الخالق حاكماً أخلاقياً له حق التسلط على الإنسان. فإذا أشهد الإنسان ضميره وعقله، وأصغى إليهما بإخلاص نال منهما أوضح شهادة. وإذا أضفنا لشهادة الطبيعة شهادة الوحي وتعاليم المسيح وأعماله وفاعلية الديانة المسيحية في العالم اتَّضحت لنا عظمة مسؤولية الإنسان أمام اللَّه.

9 - بماذا نردّ على الذين قالوا إن المعرفة اليقينية لا يمكن تحصيلها إلا بالحواس؟

* نرد عليهم بأمرين:

(1) هذا القول لا دليل عليه.

(2) إنه يخالف الواقع، فيمكن أن ننال المعرفة اليقينية بوسائط أخرى كثيرة، منها الاختبار الروحي أو العقلي، والتأمل والتفكير والإصغاء لصوت الضمير، والغرائز التي غرسها فينا الخالق، وشهادة التاريخ. فإذا أهملنا هذه الوسائط كلها تعذَّر علينا معرفة الحقائق اللاهوتية، لأن علم اللاهوت مبنيٌّ على شهادة التاريخ للمسيح، والكنيسة المسيحية التي تأسست منذ مجيئه، وللنبوات وتحقيقها، وعلى شهادة الوحي للَّه ولتعاليمه ومقاصده، وشهادة كل مؤمنٍ لفعل الديانة المسيحية في قلبه، وشهادة ضمائرنا وعقولنا واختباراتنا المختلفة. فالمعرفة المبنيَّة على الشهادة الكافية هي يقينية.

10 - ما هو البرهان على أن علم اللاهوت الطبيعي يؤيد احتياجنا للوحي؟

* (1) يعلّمنا علم اللاهوت الطبيعي كثيراً عن وجود اللَّه وصفاته وأعماله، ومقاصده، غير أنه لا يكفي لحلّ المشاكل وسَدّ احتياجاتنا. ولذلك رأى مطالعو كتاب الطبيعة لزوماً لكتابٍ أكثر إيضاحاً وتكميلاً له، هو كتاب الوحي، الذي بدونه تكون معاملة اللَّه للبشر ناقصة من جهة التعليم والإرشاد وبيان إرادته، وخاصةً في تعليم الرحمة وإعلان طريق الخلاص من الخطية والدينونة.

(2) يتَّضح نقص علم اللاهوت الطبيعي أيضاً من ضعف تأثيره ونقص سلطانه على ضمائر البشر، لأننا لا نسمع منه أمراً صريحاً بأن ما يعلِّمه هو قول الرب كما يعلن هذا كتاب الوحي. فعلم اللاهوت الطبيعي ينشئ في قلوبنا شوقاً للوحي الكتابي.

11 - ما هي أقسام علم اللاهوت بحسب مواضيعه؟

* لعلم اللاهوت أربعة أقسام:

(1) الثيولوجيا: ويبحث عن اللَّه وصفاته. ويشمل كل ما يعلّمه الكتاب في وجود اللَّه، وصفاته، والتثليث، وعلاقة اللَّه بالعالم في قضائه وأعمال الخليقة وعنايته بها.

(2) الأنثروبولوجيا: ويبحث في الإنسان. ويشمل كل ما يعلّمه الكتاب عن أصل الإنسان، وطبيعته، وحالته قبل السقوط، وعن سقوطه، وماهية الخطية وما أحدثته خطية آدم في نفسه وفي نسله.

(3) السوتيريولوجيا: ويبحث في الخلاص. ويشمل كل ما يعلّمه الكتاب عن شروط خلاص الإنسان من تجسُّد الفادي، وأنه إله وإنسان معاً، وعمله، وعمل الروح القدس في تخصيص الفداء للمؤمنين وتجديدهم وتبريرهم وتقديسهم، ووسائط النعمة.

(4) الإسخاتولوجيا: ويبحث في الآخرة، ويشمل كل ما يعلّمه الكتاب عن حالة النفس بعد الموت، وفي القيامة، ومجيء المسيح ثانيةً للدينونة العامة، ونهاية العالم، والسماء وجهنم.

وقد زاد بعضهم قسماً خامساً وسمّوه «الإكليزيولوجيا» وهو يبحث في الكنيسة، ويشمل تعليم الكتاب في ماهية الكنيسة وصفاتها وحقوقها ونظامها.

وقد بنينا كتابنا هذا على مبادئ ثابتة، نذكر منها:

(1) إن الكتاب المقدس موحى به من اللَّه، وإنه الدستور الوحيد المعصوم للإيمان والعمل.

(2) إن محور علم اللاهوت هو المسيح وعمله.

(3) إن الخلاص كما يقدِّمه الإنجيل هو من اللَّه، بنعمة مجانية وبوسائط إلهية يستخدم اللَّه البشر لإجرائها، غير أن فعلها العظيم هو بواسطة الروح القدس الذي ينير القلب ويجدّده ويقدسه.

(4) غاية المعرفة الدينية هي إصلاح الجنس البشري وبنيانه في الأخلاق والقداسة والسيرة اللائقة والخدمة الخيرية للعالم، وكل ذلك لمجد اللَّه.

12 - كيف استخرجت الكنيسة الحقائق التعليمية اللاهوتية من الكتاب المقدس؟

* كان ذلك بالتدريج، ففي أزمنتها الأولى استخرجت التعاليم المختصّة بتثليث اللَّه، وشخص المسيح. وفي القرون المتوسطة استخرجت التعاليم المختصة بالإنسان، ثم استخرجت بعد ذلك ما يتعلّق بالفداء، أي تعليم التبرير. ولا نقصد أن الكنيسة لم تعرف الحق بتمامه منذ نشأتها، بل أنها أخذت تلك الحقائق المهمة كمواضيع للبحث الدقيق بالتتابع.

13 – هل يسلِّم الجميع بأن علم اللاهوت يعتمد على حقائق الكتاب المقدس فقط، باعتباره القانون الوحيد المعصوم لإيمان المسيحيين وأعمالهم؟

* لا، فقد زعم العقليون أن للعقل سلطاناً في أمور الديانة أكثر مما للكتاب المقدس، أو معادلاً له، فنسبوا للعقل سلطاناً أكثر مما يحقّ له. وزعم الباطنيون أن للإنسان نوراً داخلياً فوق طبيعي، يفوق سلطانُه سلطانَ الكتاب أو يعادله. وزعم التقليديون أن سلطان كنيستهم (وقد اعتبروها معصومةً من الخطأ) بمنزلة سلطان الكتاب المقدس، وأثبتوا أن التقاليد جزء من الوحي. ولما كان الكتاب المقدس وحده هو المصدر المعصوم لمعرفة أمور الدين، وجب قبل دراسة علم اللاهوت أن نبيِّن بطلان آراء العقليين، والباطنيين، والتقليديين.

الفصل الثالث

اعتقادات العقليين

1 - ما هو ملخص تعليم العقليين؟

* يتلخص تعليمهم في أن للعقل السلطان الأول في أمور الدين، وينسبون للعقل سلطاناً فوق ما يحقّ له.

2 – ما هي أشهر آراء العقليين؟

* للعقليين آراء مختلفة، أشهرها ثلاثة:

(1) إنكار الوحي، لأنهم يعتقدون أن العقل هو مصدر كل معرفة واعتقاد ديني.

(2) إمكانية الوحي، فالكتاب المقدس موحى به، غير أن حقائقه عقلية يمكن للعقل البشري أن يصل إليها ويدركها من تلقاء نفسه. وغاية الوحي هي أن يوضح ما يقدر العقل أن يعرفه ويدركه بدون الوحي.

(3) لا يقدر العقل أن يصل إلى بعض الحقائق الموحَى بها ويعرفها من تلقاء ذاته، فينبغي أن يُسلّم بها لأنها مُنزَلة. غير أن العقل عندما يعرفها يجب أن يفسرها، لأنه يقدر أن يدركها.

وحسب هذا الاعتقاد تكون كل حقائق الوحي موجَّهة للعقل لا للإيمان. والعقل يقدر أن يفسّرها كما يفسر غيرها من الأمور المألوفة. وهذا يحوِّل الديانة الإلهية إلى فلسفة عقلية، ليس فيها ما يفوق عقول البشر.

3 - لماذا أنكر بعض العقليين إمكانية الوحي؟

* لأنهم زعموا أنه لا يليق بعظمة اللَّه أن يتدخَّل مباشرة في أمور العالم الجارية، لأنه (في رأيهم) تمَّم كل ما يليق أن يعمله في العالم لما أوجد المخلوقات وأعطاها قُواها وصفاتها. وهو لا يعمل شيئاً جديداً بعد ذلك. أما كل ما يحدث بعد الخليقة الأصلية فهو ناشئ عن القوانين الطبيعية بدون تدخل القدرة الإلهية. وزعموا أيضاً أن تدخُّل اللَّه في أمور الكون بعد أن رتَّبه يُظهِر نقص ترتيبه، ويعني أن خالق الكون ومنظمه ناقص الحكمة والقدرة! ولذلك أنكروا إمكان الوحي.

4 - ما هي الأدلة على بطلان إنكار إمكانية الوحي؟

* هناك أربعة أدلة على ذلك:

(1) إنه يناقض شهادة طبيعتنا الأخلاقية، لأننا نشعر دائماً أننا في حضرة اللَّه الذي يرى أعمالنا ويرتّب أحوالنا، ويعمل دائماً في جميع أمورنا، تأديباً لنا أو دفاعاً عنا. وهو ليس إلهاً بعيداً عنا، بل هو قريب، به نحيا ونتحرك ونوجد. يحصي شعور رؤوسنا، وبدونه لا يسقط عصفور على الأرض.

(2) إنه يناقض شهادة وجدان البشر (نفوسهم وقُواها الباطنة). فكل الأمم يشعرون أنهم ملتزمون بالاعتراف بوجود إلهٍ قادر على كل شيء يعتني بكل أمور العالم.

(3) لأن كل البشر كانوا يتوقعون في كل القرون إعلاناً أو وحياً من اللَّه، ويظهرون استعدادهم لقبول كل من يدَّعي ذلك حتى صاروا عُرضةً للغش من أنبياءٍ كذبة كثيرين. وبرهان ذلك أن الكتب الدينية ليست عند المسيحيين فقط، فإن عند غيرهم كتب كثيرة يعتقدون أنها مُنزَلة. فلو كان الوحي مناقضاً للعقل لما توقَّعه العالم أجمع واعتقد بوجوده. وإذا كان اللَّه قد وهب النطق للبشر ليقدروا أن يعبّروا عن أفكارهم لغيرهم، ويسطروها حتى تصل لجميع الناس على مرّ الأجيال، فكيف لا يخاطب واهب النطق خلائقه؟

(4) إنه يناقض الكتاب المقدس الذي يقول إن اللَّه حاضر على الدوام، وإنه يعمل متى شاء وكيف اختار وحيث أراد.

5 - ما هي براهين منكري الوحي على صحَّة رأيهم؟

* قالوا إن تدخل اللَّه ثانيةً بواسطة الوحي يبرهن أن عمل اللَّه الأول في الخلق كان ناقصاً. ولكن هذا مردود عليه بأن ما كان يكفي الإنسان من التعليم وهو في حالة الطهارة لا يكفيه بعد سقوطه، وأنه بسبب سقوط الإنسان تغيَّرت أحواله، فأصبح محتاجاً لتعليمٍ جديد يوافق أحواله الجديدة.

6 - ما هي الأدلة على لزوم الوحي؟

* يتبرهن لزوم الوحي مما يأتي:

(1) يشعر كل واحد بالاحتياج للوحي ليعرف أصل الإنسان وطبيعته وعلاقته بخالقه، وما يختص بالخطية وكيفية غفرانها، والخلود. وهي أمور لا يقدر أن يعرفها ويحلّها من تلقاء نفسه، مع أن معرفتها وحلّها ضروريان للحصول على السعادة والطهارة.

(2) إذا لم يقدر الإنسان أن يجعل نفسه صالحاً وسعيداً في هذا العالم، فهو لا يقدر أن يتأكد من أنه سيصير كذلك في العالم الآتي، خصوصاً وهو يعلم أن وراء الموت داراً مجهولة.

(3) إذا افترضنا أن للفلاسفة قدرةً على حل هذه المشاكل وإراحة أفكارهم بالبراهين الفلسفية، فهذا لا ينفع الإنسان العادي الذي سيبقى مضطرب الفكر في حالة اليأس. عِلماً بأن الفلاسفة أثبتوا دوماً عجزهم عن حل المشاكل العظيمة من جهة اللَّه والنفس والخطية والخلاص والحياة الأبدية. فقد قال »صولون« إنّ قَصْد الآلهة مكتوم تماماً عن البشر. وقال سقراط إن كل معرفة صحيحة بالآلهة هي من الآلهة، وقال أفلاطون: «ليس لنا أن نعرف الحقائق إلا من الآلهة أو من أنبياء الآلهة. وعقل الإنسان يحتاج إلى الإنارة الإلهية ليفهم ما يتعلق باللَّه كما تحتاج العين إلى نور الشمس لترى الموجودات». وقال أفلاطون في سقراط ورفقائه من الفلاسفة: «إنهم التزموا أن يعترفوا بجهالتهم، ويسلّموا أن لا شيء يُعرَف ويُفهَم ويُدرَس تماماً». ولما سُئل فارو (أحد مشاهير علماء الرومان في القرن الأول ق م): «ما هو الخير الأعظم؟» أجاب: »اختلف الفلاسفة في ذلك وقدّموا فيه 320 رأياً»! وفي مدينة أثينا، مركز الفلسفة الوثنية الشهير، وُجد في عهد الرسول بولس مذبحٌ لإله مجهول! (أعمال 17: 23).

ومنذ مجيء المسيح إلى الآن مازالت الأدلة على عجز العقل البشري في حل المسائل الأخلاقية والدينية تزداد قوة حتى قال هيوم الملحد المشهور: «الديانة في كل أبوابها لغز وسِر لا يُحَلّ، ومعظم ما نحصل عليه من أدق البحث عن هذا الموضوع هو الشك وعدم التأكد والتوقُّف عن الحكم». ويماثله قول الرسول بولس: «إن العالم لم يعرف اللَّه بالحكمة» (1كو 1: 21). وما جاء في سفر أيوب: «أإلى عُمق اللَّه تتّصل أم إلى نهاية القدير تنتهي؟ هو أعلى من السماوات، فماذا عساك أن تفعل؟ أعمق من الهاوية، فماذا تدري؟ أطول من الأرض طوله وأعرض من البحر.. أما الرجل ففارغٌ عديم الفهم، وكجحش الفرا يولد الإنسان» (أيوب 11: 7-12).

(4) لم يعرف البشر اللَّه معرفة كافية بالحكمة، ولا بواسطة نور الطبيعة. فإن جميع الوثنيين من المتقدمين والمتأخّرين، متمدّنين كانوا أو متوحشين، حاولوا كثيراً أن يحلّوا تلك المشاكل المهمة بواسطة نور عقولهم ولم يقدروا.

(5) اختلف الذين يرفضون إرشاد الوحي في إجابة الأسئلة الدينية، ونتج عن آرائهم إنكار الطهارة العائلية، وضياع الراحة السياسية والسعادة الشخصية. ونشأ عن ما يسمونه «إرشاد نور العقل» حالة يمكن أن نسمّيها «جهنم الأرضية»! وقد بحث القديس أغسطينوس هذا الموضوع في كتابه «مدينة اللَّه». وقدم أدلة تظهر احتياجنا للوحي، منها ما يأتي:

(1) يحتاج الإنسان في حالته الساقطة إلى إعلانٍ من اللَّه يكفي لسدّ حاجاته.

(2) يطلب وجدان الإنسان الديني (قُواه الباطنة) المعونة الروحية والإرشاد للحق.

(3) البشر مستعدون دوماً ليستقبلوا الإعلانات الإلهية لأنهم يتوقعونها ويحتاجون إليها.

(4) لا تقوم الديانة الكاملة بمجرد نظر البشر للَّه، وتقديم العبادة له، بل بنظر اللَّه أيضاً للبشر وإعلان نفسه لهم، ليكون الاقتراب بين اللَّه وبينهم متبادَلاً، خصوصاً وأن الإنسان يحتاج لاقتراب اللَّه إليه أكثر جداً مما يحتاج اللَّه لاقتراب البشر له. فينبغي أن يخاطب اللَّه البشر قبل أن يخاطبوه هم.

(5) ليس بين آراء البشر الفلسفية أو اعتقاداتهم الدينية الوثنية ما يغنينا عن الوحي مطلقاً، بل بالعكس. فقد أغنانا الوحي عن كل آراء البشر في شأن الدين، وهو يحتوي على كل ما نحتاج إليه من التعليم والإرشاد.

7 - ما هو الدليل على إمكان حدوث الوحي؟

* أفضل دليلٍ على ذلك ظهوره في تاريخ الكنيسة، واعتقاد كثيرين من البشر به في كل القرون، فظهوره بهذه الكثرة يبطل إنكاره. ومع أن إنكار إمكانيته مستحيل بداهةً، إلا أن البعض أنكره لأسباب مختلفة منها:

(1) زعمهم أن الإله غير المحدود عندما يخاطب المخلوقات المحدودة يجعل نفسه محدوداً. والرد على ذلك: إن اللَّه غير المحدود مستقل بنفسه وذو مشيئة واختيار، وإن الذي قدر أن يخلق المحدود يقدر أن يخاطبه ويعلن مشيئته له، دون أن يخالف بذلك صفاته السامية.

(2) زعمهم أن الوحي معجزة، والمعجزة مستحيلة أو بعيدة الوقوع. والرد على ذلك: إن المعجزات ممكنة، وروح اللَّه يقدر أن يخاطب الأرواح المخلوقة على صورته. ويتمّ هذا بطريقةٍ سرّية يعجز العقل البشري المحدود عن رؤيتها.

فالذين ينكرون إمكانية الوحي يقلّلون من قوة اللَّه ويحقّرون شأنه، كأنه عاجز عن تنفيذ مشيئته في المخلوقات بدون الشرائع الطبيعية والظواهر المادية، مع أن اللَّه ملك الكون ورب الطبيعة، المستقل عنها والقادر أن يدبرها كما يشاء.

8 – ما هي الأدلة على حدوث الوحي الإلهي، وعلى ماذا تبنيها؟

* نذكر بعض الأدلة التي تقوم على حاجة الإنسان للوحي، وعلى الصفات الإلهية:

(1) الإنسان ضعيفٌ وعاجز عن معرفة اللَّه من نفسه. ولكنه يحتاج لهذه المعرفة، ويتّضح ذلك منذ سقوط الإنسان إلى تجسد المسيح إلى الآن. فإن البشر في كل مكان وزمان لم يعرفوا اللَّه بالحكمة ولا بنور الطبيعة، حتى أن أشهر الفلاسفة وأغزرهم علماً لم يهتدوا إلى الحق بل ضلوا عنه كما يضل الأعمى وهو يبحث عن النور، وتاقت نفوسهم لمجيء معلِّم من اللَّه ليرشدهم.

(2) صلاح اللَّه وحنوّه على البشر ومحبته لهم، فإنه خلق الإنسان على صورته لأجل مجده، وكللَّه بقُوى عقلية سامية ومواهب سماوية، وجعله أهلاً لنوال الحياة الخالدة. ولما سقط الإنسان وتوغَّل في الجهل والخطية وصار تحت طائلة الهلاك، أراد الخالقُ المحب الرؤوف الجوّاد أن يخلّصه، فمدَّ له يد المعونة، وأعطاه الوحي لهدايته وإرشاده.

9 - ما هي الأدلة على أن الوحي متضمَّن في الكتاب المقدس؟

* يحتوي الكتاب المقدس على الوحي الإلهي، وأدلة ذلك:

(1) أعلن الأنبياء والرسل أنهم يتكلمون من عند اللَّه، وأنهم مُخوَّلون باسمه وسلطانه أن يطالبوا الناس بقبول تعليمهم طاعةً للَّه صاحب الرسالة. فإذا رفضنا تصديقهم حكمنا أنهم إما مجانين أو كَذَبة، والحكمان باطلان ومستحيلان، بدليل ما ظهر من حكمتهم وتقواهم، وما صنعوه من المعجزات لإثبات رسالتهم.

(2) لا يوجد في الكتاب ما يناقض إعلان هؤلاء الأنبياء والرسل أنهم من اللَّه، لأنه ليس في نبوّاتهم وتعاليمهم ما يستحيل وقوعه أو يناقض العقل أو الأخلاق. ولو أن ما قالوه كان من عندهم لوجدنا فيه الأخطاء والمتناقضات.

(3) تتضمّن تعاليم الأنبياء والرسل حقائق سامية، لم يكونوا ليعرفوها إلا بوحيٍ إلهي، وهي تكفي حاجات طبيعتنا، وتحل كل ما عجزت عقولنا عن حلّه من المشاكل والمعضلات. كما تصادق على كل ما تشعر به ضمائرنا وطبيعتنا الأخلاقية، وتوافق نفوسنا كما يوافق الهواء الرئتين. وبدون معرفة هذه التعاليم تكون نفس الإنسان كالرئتين بدون هواء.

ويخبرنا الكتاب المقدس بشخص المسيح وأعماله وأقواله، وبأنه أسمى إعلانات اللَّه للبشر وأوضحها، بل هو اللَّه منظوراً، وأقواله هي أقوال اللَّه وكذلك أعماله.

(4) ما فيه من وحدة المعنى مع التقدم في إيضاح الموضوع. فقد كُتبت أسفاره في 1600 سنة بواسطة نحو 50 شخصاً، ومع ذلك فإن كل من يطالعها بالتدقيق يراها كتاباً واحداً كأنها تأليف شخصٍ واحد. ترى فيه أن العهد الجديد يبيِّن إتمام نبوات العهد القديم، والعلاقة بين النبوَّة فيه وإتمامها كعلاقة الساق بالأغصان والجسد بالأعضاء، حتى لا يمكن فهم جزء منه بدون معرفة علاقته بالبقية.

(5) ما في الكتاب من نبوات ومعجزات يشهد أن اللَّه أوحى به، فمعظم ما في العهد الجديد جاء كنبوات في العهد القديم، مما يدل على أن الذين كتبوه كانوا مسوقين من الروح القدس. أما المعجزات فثابتة لأنها حوادث تاريخية روتها كتب التاريخ العالمي.

(6) تأثير الكتاب المقدس في إصلاح الناس وتهذيبهم منذ القديم، ولا يزال. إنه سبب التمدن وقوام التقوى والعدل والحرية، لأنه كلمة اللَّه الحية.

(7) الكتاب المقدس (كما هو عندنا الآن) هو نفس الكتاب الذي كتبه الأنبياء والرسل، ما عدا ما قد يكون قد طرأ عليه من تغييرٍ طفيف جداً بسبب غفلة النُّسَّاخ، الأمر الذي يُنتظر وقوعه. ولكن هذا لا يمسّ جوهره في شيء. وهو منسوب نسبةً صحيحة إلى كتَبَتِه (من موسى إلى يوحنا الرائي) الذين برهنوا صدق رسالتهم بالمعجزات وبالسيرة الحسنة وبالمعرفة الروحية. ولذلك نؤمن أن الكتاب المقدس يحتوي على وحي اللَّه.

(8) كتب أسفار الكتاب المقدس أنبياء ورسل من البشر. ولا بدّ أنهم كانوا صالحين أو طالحين. ولا يمكن نسبة مثل هذا الكتاب إلى طالحين، لأنه يعلن الحرب على الشر، وينادي بأسمى مبادئ الحق والخير، ويعلن لنا إرادة اللَّه الصالحة، فلا بد أن الذين كتبوه صالحون ملهَمون وموحَى إليهم، كما صرحوا بذلك.

10 – ما هو رأي العقليين الذين يقولون إن العقل البشري يقدر أن يدرك حقائق الوحي من تلقاء نفسه؟

* يزعم هؤلاء أن المقصود بكلمة اللَّه ليس الكتاب المقدس فقط، بل كل ما استخدمه اللَّه من الوسائط ليوصِّل الحق للبشر وليرشدهم إليه. ولكن الأسفار المقدسة هي أشهر تلك الوسائط، ولو أنها مختلطة بتعاليم بشرية خرافية، وقيمتها تقتصر على وجود الحق فيها. والعقل البشري يقدر أن يميّز الصحيح فيها من الخرافة. فإذا توافق الوحي مع العقل قبلوه، ولكنهم لا يقبلونه لمجرد أنه مُنزَل من عند اللَّه. وهم يقولون إنه لا يجوز أن نؤمن بما لا يدركه العقل. فإذا سُئل أحدهم: لماذا تؤمن بخلود النفس؟ أجاب: لأنه يطابق عقلي. ويقصد أن الأدلة على إثباته تظهر لعقله أقوى من الأدلة على خطئه، ولولا ذلك لرفضه. وإذا سُئل: لماذا لا تصدق تعليم التثليث؟ قال: لأنه لا يطابق عقلي. ويقصد أن الأدلة الفلسفية ضده تظهر لعقله أقوى من الأدلة لإثباته. فهُم لا يسلّمون بصحّة كل ما أُنزل في الكتاب، لأن العقل (في زعمهم) هو الغربال الذي ينقّي الوحي، وهو مقياس المعرفة الدينية. ومن آرائهم أيضاً أن التوراة أُعطيت لليهود الذين مزجوا ما أُوحي به إليهم بأوهامهم الخاصة وآراء الناس الشائعة في عصرهم. فيحقّ للعقل أن يغربل ما كتبه اليهود!

ويزعمون أن الوحي هو في كل تقي يتكلم عن اللَّه، وأن رجال العلوم السياسية وأصحاب المؤلفات الشهيرة التي أفادت العالم هم من أهل الوحي، فقد استخدمهم اللَّه لإرشاد البشر وإفادتهم. وكما استخدم اللَّه وسائط مختلفة لتثقيف البشر استخدم الكتاب المقدس، بدون أن يعطيه صفةً تميّزه عن الوسائط الأخرى الكثيرة.

11 - ما هو الرد على رأي العقليين أن العقل البشري يقدر أن يدرك حقائق الوحي من تلقاء نفسه؟

* (1) خطأ المبدأ الأساسي الذي بُني عليه. فليس من الضروري أن ندرك تماماً كل ما يجب أن نعتقده. نعم، لا نقدر أن نؤمن بما هو مجهول أو مستحيل، لكننا نؤمن بأمورٍ كثيرة فوق إدراكنا إذا أُقيمت عليها الأدلة. فنحن نصدِّق بعض الأمور بشهادة حواسنا، ونؤمن بغيرها على شهادة الناس، ونصدّق أن الحي يلد نظيره، وأن النبات ينمو يوما فيوماً، دون أن ندرك كيفية ذلك. فكيف نرفض ما لا ندركه من أمور الدين مع أن اللَّه شهد به؟

(2) هذا الرأي يجعل عقل الإنسان المقياس لكل ما يسمعه من حقائق دينية، ليعرف صحيحها من خاطئها. وهو باطل. فالإنسان ضعيف، يجب عليه أن يصدّق قول اللَّه حتى لو لم يدركه، كما يصدّق الولد قول أبيه وإن كان فوق إدراكه.

(3) هذا الرأي ينكر الفرق بين الإيمان والمعرفة، فالإيمان هو التسليم بأمرٍ ما بناءً على شهادةٍ تثبته. والمعرفة هي إدراك الأمر مباشرةً. فإذا كان الإيمان جهلاً، ولا يحقّ للإنسان أن يقبل ما لا يعرفه عن ذاته، لزم أن تكون أكثر العلوم التي نعرفها جهالة.

(4) هذا الرأي يقصر الديانة على أهل العلم والفلسفة فقط، لأنهم وحدهم (حسب رأي العقليين) يقدرون أن يدركوا ما يعتقدونه.

(5) هذا الرأي يدل على أن الإيمان والمعرفة جهالةٌ واستحالة أيضاً، لأنه يؤدي إلى إنكار كل شيء، فنحن محاطون دائماً بما لا ندركه، مع أنه يحقّ للإنسان أن يؤمن بأمورٍ لا يدركها عقله تماماً، لأنه لا يقدر أن يجاوب بنفسه على كل أسئلة الحياة. ولكننا بالإيمان نقبل ما لا نقدر أن نفهمه فهماً تاماً بعقولنا.

12 - ما هو رأي العقليين القائلين إن العلم أفضل من الإيمان؟

* رأيهم أن العلم تخصُّص الفلاسفة، بينما الإيمان لبسطاء الناس الذين يقبلون الديانة بناءً على شهادة الكتاب المقدس، أما العلماء فيقبلونها على شهادة عقولهم، وهي أثبت. وهم يقولون إن ما أظهره نور الوحي للعامة أظهره نور العقل للفلاسفة الذين يبنون إيمانهم على شهادة العقل دون الكتاب. وقد نشأت هذه الضلالة من مزج تعاليم أفلاطون بتعاليم الكتاب، وشاعت أولاً في القرون الميلادية الأولى.

13 – كيف ترد على من يقولون إن العلم أفضل من الإيمان؟

* (1) هذا الرأي يُضعِف أساس الدين، لأنه ينقله من شهادة اللَّه إلى براهين العقل. والفرق بين ما تثبته شهادة اللَّه وما يثبته عقل الإنسان هو كالفرق بين اللَّه والإنسان.. فالعقل البشري لا يقدر أن يبرهن صدق ما أعلنه الوحي من الحقائق المهمة مثل التثليث والتجسد والقيامة والتجديد والصلاة و ثبوت المؤمن في المسيح. ولا يقدر العقل أن يكتشف بنفسه ما جرى في جنة عدن من امتحان الإنسان، وسقوطه، وعمل الفداء، وشخص الفادي وحالة النفس بعد الموت لأنها من اختصاص الوحي، فلا نعرفها إلا بإعلان إلهي، وعلينا أن نقبلها اعتماداً على شهادته.

(2) هذا الرأي ينزع الإيمان من الدين ويغيّر طبيعته، ويجعله مجرّد فلسفة، فيفقد قوته ويصير كالأوهام العقلية، أو كموجة في بحر أفكار البشر تظهر قليلاً ثم تضمحل.

(3) هذا المبدأ مبنيٌّ على مبدأ آخر خاطئ يقول إن عقل الإنسان يقدر أن يحكم على ما هو فوق دائرة إدراكه. لقد أعطانا اللَّه الحواس والعقل، ولكلٍ منهما دائرة لا نقدر أن نتخطاها لدائرة الإيمان التي يقع في اختصاصها الخلْق وامتحان الإنسان وسقوطه وغاية الفداء وشخص الفادي وحالة النفس بعد الموت، وغيرها من المواضيع الدينية السامية التي لا يقدر العقل أن يعرفها إلا إذا أعلنها اللَّه له.

(4) هذا الرأي يناقض شهادة الأنبياء والرسل الذين تكلموا عن لسان اللَّه وطلبوا طاعة كلامهم لأنه إعلان اللَّه، وكانوا يعزّزون كلامهم بالقول: «هكذا قال الرب». ورفضوا أن يُسمّوا أنفسهم فلاسفة، وقالوا إن الإنجيل ليس من حكمة البشر، بل هو وحيٌ إلهي (1كو 2: 9-11). فيلزم عن ذلك وجوب قبول الإنجيل بالإيمان لا بالأدلة العقلية، فقد قال المسيح: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات».

(5) هذا الرأي يناقض قول التاريخ، فإن الذين اجتهدوا في تحويل الدين إلى فلسفة خاب مسعاهم في كل قرن، ونقض كلُّ جيلٍ من العقليين أفكارَ سابقيهم، مما برهن على أن عِلمهم ليس نهائياً.

فلنصدّق حواسنا وعقولنا في ما يقع ضمن دائرة كلٍ منهما، ولنؤمن بأن كلام اللَّه إعلان إلهي لعقولنا وقلوبنا. فما أشقى حالة من ليس لهم معلّم في الدين يستحق الاستناد إليه أكثر من عقولهم.

14 - ما هو مقام العقل في أمور الديانة عند المسيحيين؟

* يرفض المسيحيون آراء العقليين، لكنهم يرون ضرورة استعمال العقل في الدين، لأن الوحي ليس للحيوانات بل لأهل العقل، ولأنه يجب تمييز الحقائق أولاً في العقل ثم قبولها بالإيمان. فمعرفة العقل لازمة للإيمان.

15 - ما هو الفرق بين المعرفة والإدراك؟

* المعرفة هي العلم بوجود الشيء مع الوضوح والتحقّق، كمعرفتنا أن الشمس هي مصدر النور والحرارة. وأما الإدراك فهو فهم الشيء فهماً تاماً بكماله، ولذلك يُقال إننا نعرف اللَّه، ولا يُقال إننا ندركه. ومن أمثلة التمييز بينهما أن الإنسان مثلاً يعرف معنى القول: «اللَّه روح» ولكن لا يفهم أحدٌ أو يدرك تماماً طبيعة اللَّه. وكذلك نعرف طريق الخلاص، ولكن ليس من يدرك أسراره. ويعرف الجميع أن النبات ينمو بالتدريج، وأن حركات أجسادنا خاضعة لإرادتنا، وأن المسيح إله وإنسان في طبيعتين متميّزتين وأقنوم واحد، ولكن ليس من يدرك كنه ذلك. وعلى هذا يحقّ لنا أن نؤمن بوجود شيء ولو لم ندرك علة وجوده أو كيفيته. وهذا لا يحطّ من شأن الإنسان العاقل، لأننا لا نطلب منه التسليم بصدق ما لا يعرف معناه.

16 - ما هما الأمران اللذان يحق للعقل أن يحكم فيهما في الديانة؟

* يحق للإنسان أن يستعمل عقله في أمرين بروح التواضع والاحترام للحق، والاتكال على تنوير الروح القدس، وهما (1) هل تكلم اللَّه؟ (2) بماذا تكلم اللَّه؟

17 - هل يحقّ للعقل أن يرفض إعلاناً من اللَّه لأنه يتضمّن أموراً يعجز عن إدراكها؟

* لا، لأن ذلك يستلزم قوةً وكفاءةً في العقل لم يهبهما اللَّه لنا. وإذا لم يجُزْ للعقل أن يرفض تصديق ظواهر الطبيعة لأنه لا يدركها، فبالأولى أن لا يرفض مثل ذلك في الديانة.

18 - هل يجوز لكل إنسان أن يعتمد على حكم عقله فقط في تصديق إعلانات اللَّه؟

* لا، فقد تكون بعض الأمور غريبةً مجهولة المصدر، لكنها ممكنة التصديق. أو أن يكون بعضها غريباً ومُبهماً عند الواحد ومألوفاً مفهوماً عند الآخر. فإذا جعل الإنسان المحدود العقل والاختبار عقله مقياساً لما يمكن حدوثه كان ذلك محض جهالة، فكأنه جعل أفق نظره حدّ الفضاء غير المحدود! وكل من أصرَّ على عدم تصديق أمرٍ لا يمكنه إدراكه، يبقى إلى الأبد يتخبّط في تيه الجهل والكفر، لأنه اعتمد على المحدود.

فالاعتراض على الديانة لأنها تطلب الإيمان بما لا يمكن إدراكه باطل، وإلا لزم الأمر نفسه مع جميع العلوم.

19 - هل يحق لنا أن نصدِّق المستحيل؟

* بين الممكن والمستحيل فرق يميِّزه العقل. ومن حق الإنسان أن يرفض ما يراه العقل مستحيلاً عندما يسمع الأدلة على ذلك. على أنه يجب الاعتناء بالحكم في ذلك.

20 - هل يجوز أن نحسب أمراً مستحيلاً بدون سببٍ كافٍ؟

* لا، ولكن البعض يرفضون ما يخالف آراءهم أو أغراضهم، والبعض يرفضون ما يشعرون أنه مستحيل، مثل الذين رفضوا دوران الأرض على محورها وسيرها السريع في الفضاء لأنهم لا يشعرون بهما. ولكن كما أن رفض براهين إثبات تلك الحقائق هو جهالة، كذلك رفض الحقائق الموحى بها بزعم أنها مستحيلة لأنها تناقض آراء الذي يرفضها، أو لعدم رؤيته أنها ممكنة، مثل قول البعض إنه من المحال أن شخصاً واحداً يكون إلهاً وإنساناً معاً، رغم أنهم سلَّموا أن الإنسان مادي وغير مادي، ومائت وخالد، وأرضي وسماوي معاً.

ويُشترط في الحكم على المستحيل أمران: (1) أن يصدر عن عقلٍ سليم متواضع يطلب إرشاد اللَّه. (2) أن يصدقه عموم البشر.

ويُشترط في الحكم من جهة وجود المتناقضات في الكتاب المقدس مراعاة ثلاثة أمور:

(1) تكون غاية العقل الحاكم في المسألة مقدسة وحسنة، ويحكم بروح التواضع وخوف اللَّه وحباً لمجده، لا للبغض والمقاومة وانتقاد كتابه.

(2) ينبغي أن يكون التناقض المفروض وقوعه ظاهراً وواضحاً، وفي نفس مضمون الكتاب لا في ما يُستنتج من عباراته فقط.

(3) إذا قيل عن عبارةٍ من الكتاب إنها تناقض حقيقة ثابتةً بالعقل أو الاختبار وجب أن تكون تلك الحقيقة ثابتةً أيضاً بشهادةٍ إلهية لا بشرية، وأن تكون حقيقة بديهية ضرورية يسلّم بها الجميع. وإلا نكون قد جعلنا الأوهام البشرية والآراء العقلية قياساً للكتاب وحاكماً عليه.

21 - ما هو المستحيل؟

* هو ما استُعمل في كل باطل وغير ممكن، وهو ما ناقض ذاته كالقول عن الشيء إنه موجود وغير موجود وإنه حلال وحرام في وقت واحد. ومن الأمور المستحيلة:

(1) أن يرتكب اللَّه خطأً، أو يرضى بارتكاب خطإ.

(2) أن يأمر اللَّه بتصديق ما يناقض المبادئ التي غرسها في طبيعتنا.

(3) أن يأمر بما يناقض حقيقةً أثبتها اللَّه بإعلان سابق أو ببديهيات في العقل.

22 - ما هي الأدلة على أن للعقل الحق في أن يميّز الممكن من المستحيل؟

* (1) يدل الإيمان بأمرٍ على اقتناع العقل بصدقه، فلا يمكن أن يؤمن العقل بصدق أمرٍ مستحيل، فيكون كأنه يصدق وينكر أو يؤمن ويكفر معاً.

(2) يقول الكتاب المقدس إن هذا من حق العقل. فكثيراً ما طلب الأنبياء من بني إسرائيل أن يرفضوا تعاليم الوثنيين لاستحالة صدقها، ولأنها تتضمن أموراً متناقضة ومضادة لطبيعتنا الأخلاقية ولِما هو مسلَّم به. ونهى موسى عن تصديق ما يناقض إعلاناً سابقاً من اللَّه ولو قامت أدلة خارجية لإثباته. وقال الرسول بولس إن مَن يبشر بإنجيلٍ آخر فليكن أناثيما (أي محروماً)، ومن قال إن الخير شر أو حلَّل فعل السيئات لتأتي الخيرات فدينونته عادلة. وعليه فلا يليق أن نؤمن بما هو محال، أو شرير، أو يناقض طبيعتنا العقلية والأخلاقية، أو يخالف كتاب اللَّه.

(3) الثقة باللَّه هي أساس الإيمان والعمل، فلو صدقنا ما يناقض الشرائع التي غرسها اللَّه في طبيعتنا، انهدمت كل أسس العلم والدين وتلاشى التمييز بين الحق والباطل والحلال والحرام، وصرنا هدفاً للغش من كل ماكرٍ ماهر. فيجب أن نمتحن الأرواح بمقياس عقولنا وبالإعلانات الإلهية.

23 - ما هي علاقة العقل بالحق؟

* علاقة العقل بالحق كعلاقة النور بالموجودات، فكما أن النور هو واسطة ظهور الموجودات، لا أصلها ولا سبب وجودها، كذلك العقل هو ما نستجلي به الحق، ولكن العقل ليس أصله ولا سبب وجوده، لأن الحق مستقل عن العقل وسابق لوجوده. وقد أعطانا اللَّه كتابه لينير عقولنا ويرشدنا إلى فهم مسائل سامية مهمة. ولا شك في أنه لم يجعل تناقضاً بينهما وبين الكتاب.

24 - هل للعقل حق البحث عن صحة الأدلة على إثبات الوحي؟

* نعم، ونقدم على ذلك ثلاث ملاحظات:

(1) يدل الإيمان على الاقتناع، والاقتناع مبنيّ على الدليل. وعليه، فالإيمان بدون دليل ضد حكم العقل.

(2) يجب أن يماثل الدليل القضية المقصود إثباتها، فالقضية التاريخية أو الهندسية مثلاً تقتضي دليلاً تاريخياً أو هندسياً. كذلك أمور الروح تقتضي برهاناً من الروح القدس، أي الإعلان بإلهام. وربما أُثبتت قضية واحدة بأدلة متنوعة، ومن ذلك إثبات أن يسوع هو ابن اللَّه العلي، فهذه لها أدلة تاريخية وأخلاقية وروحية ونحوها.

(3) يجب أن يكون الدليل كافياً لإثبات القضية ليقنع كل ذي عقل سليم.

25 - ما هي الأدلة على أن للعقل حق البحث في هذه الأمور؟

* (1) لا يطلب الكتاب منا الإيمان بأمرٍ لا تبرهنه الأدلة الكافية. قال المسيح: «لو لم أكن قد عملتُ بينهم أعمالً لم يعملها أحدٌ غيري لم تكن لهم خطية. وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي» (يو 15: 24). وقال بولس إن الأمم بلا عذرٍ في ما يعملونه (رومية 1: 20).

(2) يحسب الكتاب عدم الإيمان من أفظع الخطايا، لأنه لا ينشأ عن عدم وجود أدلة موافقة وكافية. وكل رفضٍ للحق عمداً رغم وجود الأدلة عليه (كرفض اليهود للمسيح) ناشئ عن شر قلب من يرفض الحق (يو 3: 17-19).

(3) يأمرنا الكتاب بأن نفحص الأرواح ونميّزها ونمتحنها.

(4) لأن الإيمان هو قبول الحق بناءً على شهادة كافية ودليل قوي.

26 - ما هي مكانة العقل في درس اللاهوت والبحث عن حقائق الطبيعة والوحي؟

* العقل يبحث عن كل ما يتعلق بالخليقة المنظورة لاستجلاء حكمة اللَّه وقدرته وكيفية معاملته لخلائقه وعلاقتها به وببعضها البعض. وأيضاً البحث عن إعلانات الوحي والأدلة على صدقها واستخراج تعاليمها في اللَّه وصفاته وأعماله ومطالبه وواجبات البشر له وبعضهم لبعض. ومن شأنه أيضاً أن يقبل كل ما هو مثبَّت من الوحي بروح التواضع والوقار بدون تأخير.

27 - ما الذي تعلمناه مما تقدم؟

* يقبل المسيحيون كل ما يحق للعقل أن يطلبه، فإن اللَّه لا يطالب خلائقه العاقلة بما يناقض العقل، فلا يطلب إيماناً بلا معرفة، ولا بما هو مستحيل، ولا بدون دليل. وتختلف المسيحية مع الوثنيين أهل الخرافات لأنهم يؤمنون بدون دليل كافٍ، كما تختلف مع العقليين الذين ينفون عصمة الوحي لأنهم لا يؤمنون بما لا يدركونه رغم وجود الأدلة الكافية على صدقه، ويجعلون العقل حاكماً على الوحي. أما المسيحي فيقرّ (رغم كل معرفته) أنه محدود وضعيف وجاهل، ويقف أمام اللَّه متواضعاً عاملاً مسؤولاً، ويؤمن بكل إعلانات اللَّه ذي العقل غير المحدود والجودة غير المتناهية.

28 - لماذا ينكر البعض أن الإنسان مسؤول عمّا يعتقده في الدين والأخلاق، وما هو الرد عليهم؟

* من أسباب ذلك أنه لما كان الإيمان يستلزم براهين كافية لإثبات ما نعتقده، زعموا أن عدم وجود تلك البراهين يرفع المسؤولية عن الإنسان إذا أخطأ في اعتقاده.

أما الرد على ذلك فهو أن للحقائق الدينية والأخلاقية براهين كافية لإثباتها، يقدر كل إنسان أن يعرفها، ولا يمنعه من معرفتها إلا الغفلة وعدم الميل إلى الحق وقسوة القلب ومحبة الخطية، ورفض كل الوسائل لإنارة العقل وإصلاح الاعتقاد وبيان الحق. ولا بد أن يُسأل الإنسان عن ذلك يوم الدين. كما أنهم يزعمون أن الإنسان غير مسؤول عن اعتقاده، وإلا جاز اضطهاده إذا ضل، وجاز إرجاعه للحق بالإجبار القاسي. وهو مردود بأن الإنسان مسؤول عن اعتقاده أمام اللَّه لا أمام البشر، وللَّه وحده حق توقيع العقوبة عليه إذا أخطأ. أما إجبار البشر للبشر على الاعتقاد بشيء فينتج شروراً كبيرة، كما نشأ عن ديوان التفتيش وقتل الشهداء. ولا يجوز للبشر أن يعاقبوا الخاطئ إلا على ما يبدو منه من الضرر، للأفراد أو للجمهور.

ومن الأدلة الإيجابية على أن الإنسان مسؤول أمام اللَّه عن اعتقاده ما يأتي:

(1) ما نراه من معاملة اللَّه للإنسان في حياته. فإن خطأ الإنسان أو فساد اعتقاده في أمور طبيعية لا يرفع عنه المسؤولية، فإذا شرب شيئاً ساماً، أو عرّض نفسه لأحوالٍ خطرة، أو قام بأعمالٍ مضرة أو تغافل عنها، أصبح عرضةً لما ينشأ عنها من النتائج الرديئة.

(2) يدين الضمير على الأعمال المناقضة للحق، ولو كان اعتق�